جرح
بهدوء انساب بسيارته إلى داخل المقبرة.
فتح نافذة السيارة فلفحه هواء ساخن ، لم يكن الظلام دامساً ، هذا الأمر سمح لعينيه الحمراوين أن تتابع أرقام صفوف القبور ببرود.
عندما وصل إلى جهة القبور الجديدة أوقف السيارة، وفور نزوله شد إنتباهه قبر معين ، إقترب منه وهو يتأكد من الأرقام فإذا هو القبر الذي يبحث عنه .
عندما وصل إلي القبر أغمض عينيه وشرع في الصلاة على الميت ، وما أن انتهى ،وكشخص قد خطط لما يفعله ، أدخل بسرعة يده إلى جيبه وأخرج ورقة كان قد كتب فيها بعض الأدعية وبدأ في قراءتها .
بعد أن انتهى ووفقاً لما خطط له كان يفترض منه أن يغادر المكان ولكن جوارحه خانته .
أخذت عيناه تحدق في القبر الذي تجنب النظر إليه ، أما قدميه فتسمرت في الأرض رافضةً المسير، وعندما ارتسمت صوره معينة على القبر كان هذا اكبر من مقاومة لسانه.
- (بصوت مبحوح ومنخفض) : أبو حميد .
يسكت
- إنشاء الله يكون هذا مكانك .
يديه ترتعش
-أنا أخذت الوصف من فهد ، وانت عارف فهد نكبه .
يبتسم ابتسامه صفراء
لم يتعود على استخدام لغة الحوار الجاده ومع احمد بالذات .
أخذ يتلفت كشخص غير راغب في متابعة الحوار .
- معليش ما حضرت الجنازة ، أنا قلت أجي بعدين عشان ناخذ راحتنا في الكلام .
فرت دمعه من عينه ، ولكنه مازال مبتسماً .
- إيه وش فيه أخبار .
- أنا من جهتي ما عندي شي جديد ، بصراحة لي كم يوم ما شفت أحد .
بدأت قدميه بالإرتجاف ، أحس أنه أقترب من الإنهيار ، اراد ان يفعل أي شيء أو يقول أي شيء ليخرج من هذا الموقف .
- بكرا الهلال بيلعب النهائي ، طبعا عندك فكره بما أن حنا شايفين مباراة دور الأربعة سوا .
ضحك ضحكه سريعة .
وقال بصوت متهدج :
- وعلى فكره ،ترى ما اقدر اشوف المباراه عندك لأني مرتبط .
وما أن نطق بآخر حرف حتى خارت قواه وجثا على الأرض ، أخذت يديه تمسك بالحجارة الصغيرة التي فوق الأرض بعنف ، وأخذ يبكي كالأطفال.
كان هذا الموقف أقوى من صموده الذي تمسك به ، ومن الأغلال التي قيد بها مشاعره،ومن هدوئه الذي أُشتهر به.
أخذ يصيح :
- ليه يا احمد.
- ليه يا احمد.
- ليه .
سمع بعض الجلبة خلفه وصوت باب يُفتح ، فالتفت فإذا بشخص قادم ، يبدو أن صراخه أيقظ الحارس .
إنتصب واقفاً وأخذ يرتب ملابسه وقال معلقاً على إيقاظه للحارس :
- الظاهر إني أسأت الأدب .
يمسح دموعه بكمه ويستطرد :
- كالعاده
يضحك .
الحارس يقترب أكثر ، أراد أن ينهي اللقاء قبل وصوله .
ولكن ماذا يقول .
كل العبارات والجُمل التي يعرفها كانت أقل من أن يختم بها لقاء كهذا .
وبحركه لا إراديه نظر إلى القبر .
بدأ يتراجع ولكنه لم يبعد نظره عن القبر.
أغمض عينيه كي لا ينظر إلى القبر ثم أشاح بوجهه وأسرع الخطى إلى سيارته ولم يلتفت إلى الخلف أبدا .
سمع الحارس يصرخ ببعض الكلمات إلا إنه لم يهتم ، ركب سيارته وانطلق خارجا من المقبرة .
بعد خروجه ، وتحت أنوار الشوارع لاحظ بقع من الدم على يديه وثوبه ، نظر إلى يديه فإذا بجرح في إحداها جراء احتكاكها بالحجارة ،إلتفت إلى الخلف ليأخذ علبة المناديل ، لكنه لم يفعل، رفع يديه إلى وجهه ونظر إلى الجرح بتمعن ، ايقن انه جرح لن يندمل ابدا ، جرح سيبقى شهيدا على احمد ، وضع يديه على المقود وأكمل المسير .